غزة تنزف بصمت- تطبيع الموت وإنكار إنسانية الفلسطينيين.

مع بزوغ فجر هذا اليوم، تصفحت منصات التواصل الاجتماعي بشغف، باحثًا عن أخبار قطاع غزّة المحاصر. كان عليّ أن أتجاوز سيلاً من الأخبار قبل أن أقع أخيرًا على أي إشارة إلى وطني الجريح. ومع ذلك، فإن الأنباء المتدفقة من غزّة عبر الأصدقاء والأقارب ووسائل الإعلام الاجتماعية لا تقل قتامة وهولًا عما كانت عليه قبل عام مضى. يواصل أهلها المكلومون إطلاق صرخات الاستغاثة، متشبثين بأمل ضئيل في أن يسمعهم العالم أجمع.
على مدار ثلاثة أشهر عصيبة، وجّه الدكتور حسام أبو صفية، المدير الموقر لمستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمالي غزّة، نداءات يائسة للعالم، بينما كان الجيش الإسرائيلي يفرض حصارًا خانقًا على المستشفى، ويقطع عنها الإمدادات الحيوية، ويقصف المنطقة المحيطة بها بلا هوادة، ويقتل الأبرياء في محيطها، ويصيب بعض العاملين الطبيين والمرضى الذين التجأوا إليها طلبًا للعلاج.
في نداء مصور مؤثر نُشر في الثاني عشر من ديسمبر/ كانون الأول، صرّح الدكتور أبو صفية بأسى: "نحن الآن بلا حول ولا قوة، ونقدم خدمات طبية متدنية المستوى. نأمل أن تكون هناك آذان مصغية، وأن يوجد ضمير إنساني حي يستمع إلى ندائنا الحار ويفتح ممرًا إنسانيًا عاجلاً إلى المستشفى، لكي نتمكن من مواصلة تقديم خدماتنا الطبية الضرورية".
ولكن صرخاته المدوية ذهبت أدراج الرياح، ولم تجد من يصغي إليها. ففي اليوم التالي لعيد الميلاد المجيد، قُتلت امرأة مسكينة عند البوابة الأمامية للمستشفى جراء قصف إسرائيلي غاشم، كما استُشهد خمسة من العاملين الطبيين الأبطال، وهم: الدكتور أحمد سمور، طبيب الأطفال المحبوب؛ إسراء أبو زيدة، فنية المختبر المتفانية؛ عبدالمجيد أبو العيش، وماهر الأجرمي، المسعفان الشجاعان؛ وفارس الهودلي، فني الصيانة المخلص. أما الممرض حسن دابوس، فقد أصيب بجروح بالغة الخطورة داخل المستشفى بعد أن هشمت شظايا القصف جمجمته.
وفي أعقاب ذلك، اقتحم جنود إسرائيليون المستشفى بوحشية وأضرموا النيران فيه، وطردوا 350 مريضًا قسرًا، واختطفوا الدكتور أبو صفية وعددًا آخر من أفراد الطاقم الطبي الشرفاء.
هذه الأخبار المفجعة لم تحظَ إلا بقدر ضئيل من الاهتمام في وسائل الإعلام الدولية، ولم تصدر ردود فعل قوية من الحكومات الأجنبية أو المؤسسات الرائدة، باستثناء بعض الدول الشقيقة في الشرق الأوسط ومنظمة الصحة العالمية. من الواضح أن إسرائيل قد نجحت إلى حد كبير في تطبيع هجماتها الوحشية الممنهجة، وتدمير المستشفيات الفلسطينية، وقتل المرضى الأبرياء والطاقم الطبي الفلسطيني الذي نذر نفسه لخدمة الإنسانية.
ولم يصدر أي رد فعل يُذكر من العالم أيضًا عندما اغتيل الدكتور سعيد جودة، آخر جراح عظام متبقٍ في شمال غزّة، في وقت سابق من هذا الشهر، بينما كان في طريقه إلى عمله في مستشفى العودة الذي يكاد لا يعمل في مخيم جباليا للاجئين. الدكتور جودة، الذي كان جرّاحًا متقاعدًا، شعر بأنه مضطر للعودة إلى العمل بسبب النقص الحادّ في الأطباء، نتيجة للاستهداف الإسرائيلي المباشر للعاملين في القطاع الصحي.
قبل أسبوع واحد فقط من مقتله المأساوي، علم الدكتور جودة أن ابنه الحبيب، مجد، قد استُشهد. ورغم حزنه العميق ولوعته، واصل عمله النبيل في خدمة أبناء شعبه.
تسعى إسرائيل جاهدة إلى القضاء على جميع مظاهر الحياة المدنية في شمال غزّة، كجزء من سياسة ممنهجة لإخلاء المنطقة من سكانها الأصليين. ولهذا السبب، تستهدف البنية التحتية المدنية في الشمال بشكل متعمد، وتعرقل عملها الحيوي. وقد كانت المرافق الطبية القليلة المتبقية هي آخر ما تبقى من مظاهر الحياة المدنية التي تسعى إسرائيل إلى تدميرها.
وإلى جانب محاولة القضاء على العاملين الطبيين الشرفاء، يمنع الجيش الإسرائيلي بشكل منهجي فرق الدفاع المدني وسيارات الإسعاف من إنقاذ الأرواح في شمال غزّة، وغالبًا ما يستهدفهم ويقتل أفرادها أثناء محاولاتهم البطولية لإنقاذ المصابين.
ولم يتم تجاهل نداءات الاستغاثة القادمة من الشمال المنكوب فحسب، بل يعاني قطاع غزّة بأكمله من ويلات المجاعة الشديدة، حيث قلصت إسرائيل بشكل كبير عدد الشاحنات الإنسانية والتجارية التي يسمح لها بالدخول إلى القطاع. الجوع منتشر في كل مكان، ويؤثّر حتى على أولئك الذين لديهم القدرة على شراء الطعام، ولكنهم لا يجدونه ببساطة.
أخبرني ابن عمي، وهو معلم يعمل في وكالة الأونروا، عن زيارته لشقيقته المريضة والمهجرة في دير البلح. أثناء الزيارة، لم يستطع النوم من شدة الحزن. لم يتناول الخبز لمدة 15 يومًا، ولكن ما أبقاه مستيقظًا ليس جوعه الخاص كونه مصابًا بداء السكري، بل بكاء أطفال شقيقته الذين طلبوا قطعة خبز صغيرة فقط. حاول ابن عمي تهدئتهم بسرد القصص الخيالية لهم حتى غلبهم النعاس أخيرًا، لكنه بقي مستيقظًا، تطارده أصوات جوعهم المؤلم وجوعه هو أيضًا.
وإلى جانب الغذاء الضروري، تمنع إسرائيل أيضًا إيصال المواد اللازمة لبناء الملاجئ الآمنة. وقد توفي أربعة أطفالٍ حديثي الولادة متجمدين من البرد القارس منذ بداية هذا الشهر.
وفي خضم المجاعة القاسية والشتاء القارص، لم يتوقف القصف الإسرائيلي الوحشي للمنازل وخيام النازحين الأبرياء.
في السابع من ديسمبر/ كانون الأول، فقد قريب بعيد لي، الدكتور محمد النيرب، زوجته الحبيبة وثلاثًا من بناته عندما قصف الجيش الإسرائيلي منزله في حي الشيخ رضوان غربي غزّة. اثنتان من بناته، سالي وسحر، كانتا طبيبتين مخلصتين، تساعدان في إنقاذ الأرواح. أما الآن، فقد رحلتا إلى الأبد.
عندما تواصلت ابنة أخي، نور، وهي أم لطفلين، مع عمّها الدكتور محمد لتقديم التعازي الحارة، وجدت أن ألم فقدانه لا يُحتمل. تحدثت إليها بعد ذلك بقليل، وكانت كلماتها تعبر عن اليأس العميق: "متى يسمعنا العالم ويرانا؟ متى ستتوقف هذه المجازر الوحشية؟ ألا نعد بشرًا مثلهم؟".
في الحادي عشر من ديسمبر/ كانون الأول، استُهدفت عائلة أخرى على مقربة من منزل الدكتور محمد في حي الشيخ رضوان. وأودى ذلك الهجوم الإسرائيلي الغاشم بحياة الصحفية الفلسطينية المرموقة إيمان الشنطي، إلى جانب زوجها وأطفالها الثلاثة الأبرياء.
قبل أيام قليلة من مقتلها المأساوي، شاركت إيمان مقطع فيديو تحدثت فيه بمرارة عن واقع الإبادة الجماعية التي يتعرض لها شعبها. قالت للعالم بصوت يملؤه الأسى: "هل من الممكن أن يوجد هذا المستوى من الفشل؟ هل دماء أهل غزّة رخيصة لهذه الدرجة بالنسبة لكم؟".
ولكن لم يكن هناك أي إجابة شافية. فكما جرى تطبيع جرائم الحرب المرتكبة ضد الفلسطينيين، تم أيضًا تطبيع موتهم وألمهم ومعاناتهم. هذا التطبيع الخطير لا يسكت معاناتهم فحسب، بل ينكر إنسانيتهم أيضًا.
ومع ذلك، بالنسبة للفلسطينيين الصامدين، فإن ألم الفقد ليس بالأمر العادي أو المعتاد، بل هو ألم عميق يبقى ويتغلغل في الروح، ويبقى حيًا ولا يهدأ، محمولًا في أصداء من فقدوا، سواء داخل غزّة المحاصرة أو خارجها في الشتات. إنه ألم عابر للحدود، وحزن يتجاوز كل الحدود، يربط الفلسطينيين في الشتات بأولئك الذين يتحملون أهوال الإبادة الجماعية في الداخل.
في منشور مؤثر على وسائل التواصل الاجتماعي في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول، وثقت الصحفية المقتدرة ديانا المغربي، التي نزحت إلى مصر، الحزن الذي لا ينتهي لشعب غزّة الصابر: "أحباؤنا لا يموتون مرة واحدة فقط، بل يموتون مرات عديدة بعد موتهم الفعلي. الشخص يموت في يوم وفاته، ثم يموت مرة أخرى عندما تنكسر ساعته التي كنت أرتديها لسنوات. ويموت مرة أخرى عندما يتحطم فنجان الشاي الذي كان يشرب منه. ويستمر الموت في كل يوم يذكرنا بتاريخ وفاته".
بينما يتكرر هذا الموت المتكرر أكثر من 45,000 مرة مؤلمة، يبدو أن العالم مستعد للمضي قدمًا دون غزّة. بعد خمسة عشر شهرًا من الإبادة الجماعية المروعة، يشعر المدافعون والنشطاء حول العالم بالإرهاق الشديد من الدمار الذي لا ينتهي والهائل في غزّة والصمت الساحق والمخزي إزاءه.